صب الزيت على النار

رأي إعلامي

أ/ شاذلي عبدالسلام محمد

صب الزيت على النار

🔹في الفلسفة السياسية يعتبر الخطاب أحد الأدوات الأكثر تأثيرا في تشكيل الوعي الجمعي إذ إنه لا يعبر فقط عن موقف أو رؤية بل يشكل جزءا من المنظومة الإدراكية التي تحدد تفاعل الجماهير مع القضايا المصيرية وعندما يتحول الخطاب من أداة للفهم والتحليل إلى وقود يغذي نيران الأزمات و يصبح من الضروري تفكيكه ليس فقط لمعرفة مضامينه ولكن أيضا لفهم السياقات التي أُنتج فيها والأغراض التي قد يوظف من أجلها….

🔹في هذا السياق جاء خطاب مني أركو مناوي بشأن حدود دارفور فانتفضت ساحات النقاش العام بين مؤيدٍ يعتبره تأكيدا على حقوق تاريخية وبين معارض يرى فيه إثارة لملف حساس في وقت لا يحتمل المزيد من الانقسامات ولكن السؤال الفلسفي الأعمق هنا ليس حول ما قاله مناوي بل حول لماذا أثار هذا القدر من الجدل وما إذا كان ذلك الجدل تعبيرا حقيقيا عن المخاوف الوطنية أم أنه مجرد نموذج جديد لصناعة الأزمات من لا شيء…..

🔹عزيزي القارئ إذا قرأنا الخطاب ضمن إطاره الموضوعي فسنجد أنه لم يأتي بجديد في جوهره بل هو استمرار للنقاش حول مفهوم الفيدرالية وإعادة توزيع السلطة.وإعادة النظر في أسس تقسيم الأقاليم وهو نقاش مشروع في أي دولة تسعى لإعادة هيكلة أنظمتها السياسية بعد صراعات ممتدة ولكن اللافت للنظر هو الطريقة التي استقبل بها الخطاب حيث جرى انتزاعه من سياقه السياسي وتحويله إلى سلاح في معركة التأويلات المتناقضة وكأن الجميع كان ينتظر شرارة جديدة لإشعال المشهد….

🔹الحقيقة أن هذه ليست المرة الأولى التي يتحول فيها خطاب سياسي إلى مادة تستخدم لصناعة حالة من الاحتقان فمنذ سنوات تعيش الساحة السودانية حالة من التوتر المزمن حيث يقرأ كل تصريح وفقا لمعادلات الولاء والخصومة وليس بناء على مضمونه الفعلي فهل المشكلة في الخطاب ذاته أم في البيئة المشحونة التي تجعله يبدو أكثر إثارة مما هو عليه في الواقع؟….

🔹احبتي من الناحية الفلسفية، ينظر إلى الخطاب السياسي بوصفه نتاجا للعلاقات السلطوية في المجتمع فليس كل خطاب يقال لأنه يجب أن يقال بل لأن هناك من يستفيد من قوله وحينما نضع خطاب مناوي في هذا الإطار سنجد أن تأثيره لم يكن نابعا فقط من مضامينه بل من استجابة الفاعلين السياسيين له حيث تلقفته بعض الجهات كفرصة لإعادة إنتاج الصراعات ليس بحثا عن حلول بل لتعزيز مواقفها عبر استثارة المشاعر الجماهيرية…..

🔹إن هذه الاستجابة ليست مفاجئة في المشهد السوداني حيث اعتادت القوى السياسية على استغلال كل تفصيل لإعادة هندسة المشهد بما يتناسب مع مصالحها ففي عالم السياسة ليست الحقيقة ما يقال بل ما يمكن استثماره من القول ومن هنا يتحول أي تصريح حتى لو كان عاديا إلى مادة خصبة لإشعال الجدل خاصة عندما يكون المتلقي مستعدا نفسيا وعاطفيا للانفعال أكثر من الاستيعاب….

🔹لكن لا يمكن تحميل الفاعلين السياسيين وحدهم مسؤولية هذا التوتر المستمر فالإعلام والجمهور يلعبان دورا لا يقل خطورة في هذه المعادلة فبدلا من أن يكون الإعلام فضاء لتحليل الخطاب وتقديمه في سياقه الصحيح نجده في كثير من الأحيان يساهم في تأجيج المشهد إما من خلال التغطية العاطفية التي تركز على الإثارة بدلا من التحليل أو من خلال الانتقائية في نقل التصريحات بحيث يتم تضخيم بعض الجوانب وإخفاء أخرى مما يؤدي إلى تشكيل صورة مشوهة عن الواقع….

🔹أما الجمهور فيتحمل مسؤولية موازية إذ إن ردود الفعل الجماهيرية كثيرا ما تتسم بالحساسية الزائدة تجاه القضايا السياسية حيث يتعامل الأفراد مع التصريحات وفقا لانتماءاتهم العاطفية أكثر من معايير التفكير النقدي وبهذا يصبح كل خطاب يلقى وكأنه تهديد وجودي وليس مجرد وجهة نظر قابلة للنقاش….

🔹إن السودان اليوم بحاجة ماسة إلى خطاب سياسي جديد لا يقوم على التأجيج والاستقطاب بل على التهدئة والتفاهم فالقضايا الكبرى لا تحل عبر الصراخ الإعلامي أو المزايدات السياسية بل عبر الحوار العقلاني الذي يضع المصلحة العامة فوق الحسابات الضيقة…..

🔹لكي يتحقق ذلك لا بد من إعادة تعريف دور الفاعلين السياسيين بحيث يكون دورهم الأساسي هو قيادة النقاش الوطني نحو حلول حقيقية بدلا من استغلاله كوسيلة لتعزيز نفوذهم كما يجب على الإعلام أن يتحرر من نمط الإثارة ليصبح منصة للفهم العميق بدلا من أن يكون وقودا لصراعات لا تنتهي….

🔹أما الجمهور فعليه أن يدرك أن التفاعل مع الخطابات السياسية لا يجب أن يكون عاطفيا بل تحليليا وأن الاستجابة الذكية لأي تصريح سياسي لا تكون بالتسرع في الحكم بل بالنظر إلى ما وراء الكلمات ومحاولة فهم الغايات التي يراد تحقيقها من خلاله….

🔹إن خطاب مناوي في حد ذاته لم يكن يحمل في طياته ما يستدعي كل هذا الجدل لكن السياق المشحون جعل منه مادة قابلة للانفجار وفي واقع كهذا تصبح المسؤولية جماعية مسؤولية السياسيين في ضبط خطابهم ومسؤولية الإعلام في نقله بموضوعية ومسؤولية الجمهور في تلقيه بعقلانية….

🔹فبدلا من أن نكون مجتمعا يلقي الزيت على النار لماذا لا نكون مجتمعا يطفئها؟…..

🔹الي ان نلتقي….

١ أبريل ٢٠٢٥م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!