#لماذا يكرهوننا؟

#لماذا يكرهوننا؟
قدَّر الله لنا أن نكون في المكان الذي خُلقنا فيه، ولم نختر شيئًا من مكوِّنات الحياة، لا النيل، ولا النخيل، ولا حتى الصحراء.
لا يملك الرجل منَّا في هذه الحياة الدنيا، من ميراث المال أو الأفدنة ومساحة الارض الثابتة منذ آلاف السنين، سوى حوضٍ أو ربع حوض، أو لا شيء.
خُلقنا هكذا… أمةً من الأحباب، يتناسقون في عقدٍ فريدٍ يتدلَّى من جيد الوطن شمالًا، يكاد يلامس الأرض الطيبة عند انحناءات النيل في أبو حمد والدبة. وكلُّنا، والنيل، ننحني تقديرًا واحترامًا لوطنٍ أحببناه من صميم الفؤاد.
في بداية الألفية الثانية، ساقني عملي الإعلامي إلى ولاية غرب دارفور، فخرجنا مع شبابٍ رائعٍ من أبناء الجنينة في رحلةٍ أخوية، تعبيرًا عن احتفاء أصدقائنا وزملائنا بنا. وهناك، فتحنا الحوار عن الوطن الكبير، عن الانتماء للسودان المليون ميل حينها.
خلصتُ من هذا الحوار إلى أننا، نحن أبناء النيل وشمال السودان، وحدنا من يملؤهم الوطن حبًّا، من حلفا إلى نمولي، ومن بورتسودان إلى الجنينة. كان الحوار شفافًا لدرجة أن بعض الشباب الذين يعيشون في السودان، كانوا يتحدَّثون عن السودان وكأنه شيءٌ منفصلٌ عنهم، وكأنَّ السودان عندهم هو كلُّ ما هو خارج الحواكير والقرى والمدن التي ينتمون إليها.
سألني يومًا رجلٌ محترمٌ من زعماء الإدارة الأهلية في غرب السودان:
ــ من أين أنت يا بُني؟
قلتُ له، مبتهجًا: أنا من مروي.
فأردف بسؤالٍ آخر: من عُمدتكم؟ مَن ناظركم؟
قلتُ له: لا يوجد لدينا ناظرٌ ولا عُمدة.
ثم واصل يسألني، وهو مندهشٌ: إذن، من الذي يدير أموركم؟
قلتُ له: ربُّ العالمين.
أدهشني حين قال لي: “أنت لا تعرف شيئًا! فالحياة هنا مقسَّمةٌ بالمتر، لكلِّ قبيلةٍ مرعى وحواكير وقُرى، حتى الشجر في الصحارى، يعرف الرعاة تحت إدارة مَن يقع!”
#إذًا، لماذا تكرهوننا؟!
ونحن نفتح أرضنا على مصاريع الحب لكلِّ من تطأ قدماه أرض الشمال، ليبني بيته جارًا لنا، ويفتح دُكانه في ناصية بيتنا. للعمال، والزُّرَّاع، والتُّجار، والعسكر، نفتح أحضاننا بكل الحب، ليذوب الداخل إلينا في لكناتنا وأغنياتنا وإيقاعاتنا. لا نعرف الحقد ولا الكراهية، ولا نعامل الناس باللون أو الجنس، بل نعيش سواسيةً كأسنان المشط، في وطنٍ لا يمتلك من مقوِّمات الحياة شيئًا غير الحب.
أغلبهم يظنُّ أن الأرض التي نعيش فيها هي الجنة. يتَّهمنا البعض بأنَّنا أخذنا منهم شيئًا، وهو لا يعرف ما هو، ولا ماهيَّته.
ولكننا نؤكِّد أننا لم نسرق النيل من أرض أحد، ولم نُغيِّر اتجاهاته ليصبَّ في قلوبنا عشقًا أبديًا.
حتى الذهب، عندما تمَّ اكتشافه في شمال السودان، لم نُغلق حدودنا، ولم نمنع الناس من شتى البقاع ليبحثوا عنه في باطن أرضنا. بل بالعكس الذهب في جبل عامر والصحراء والجبال الدارفورية هو اكثر من مايوجد عندنا ولكنكم لاتستطعون ببساطةالتمتع به لان بعضكم يمنع البعض من التمتع بحقوقكم واستحقاقكم الطبيعي
ونحن .. يعبر إلينا أبناء الغرب إلى قلب الصحراء، ينزلون في الدبة، ويعبرون مروي وكريمة، ويستقرُّون في أبو حمد، ثم يمرُّون في طريق عودتهم فرحين مبتهجين بسياراتهم الجديدة وأموالهم المحمولة، بينما نحن نقبع تحت وطأة الفقر والاحتياج، ولم نشعر يومًا بالحسد أو الغيرة، ولم نخرج في تظاهرةٍ نُغلق بها تقاطع القرير أو كوبري الدبة، لمنع أهل السودان من التمتُّع بكنوز السودان في شمال السودان.
#إذًا، لماذا كلُّ هذه الكراهية؟!
يخرج علينا يوميًا شبابٌ زاملناهم في مدارسنا وجامعاتنا في الخرطوم، يخاطبون أهلهم ليقتلونا، ليسلبونا الحياة الكريمة والشرف! وصلت بهم الجرأة والكراهية إلى قتل أطفالنا واغتصاب نسائنا، ظانِّين أنَّ تعليمنا، وثقافتنا، وانحناءَنا لرياح الفتن كي تمر، هو خنوعٌ وانكسارٌ وضعف.
وهم لا يعلمون أنهم، من حيث لا يدرون، جعلوا من كلِّ واحدٍ منَّا مقاتلًا شرسًا، يُخفي سيفه تحت عباءة الوطن الكبير، ويؤمن بأن من مات دفاعًا عن أرضه وعِرضه، مات شهيدًا. وإلى حين ذلك، سنلتزم الصمت.
بالأمس القريب، احتفلت تنقاسي، التي دمَّرتها السيول والفيضانات، بافتتاح مركز الشرطة الذي تمَّ بناؤه بالعون الذاتي. فأوَّل ما فكَّر فيه الناس هنا، بعد أن دمَّرت السيول كلَّ شيء، هو القانون! وهذا هو الفرق بيننا وبين الآخرين.
الفرق بيننا وبينكم، أنكم تجمعون المال بالمليارات لدفع الدِّيَات والعِوَض عن الأرواح والدماء المسكوبة على اللاشيء، ونحن نجمع المال لبناء المدرسة، والمستشفى، والمسجد، وأقسام الشرطة.
نكتشف الآن أنَّ مَن يكرهنا، هو في الحقيقة يكره نفسه!
يكره فشله، وجهله، وحبَّه للقتل، والسلب، والنهب. لا يوجد لكم مبرِّرٌ واحدٌ، وأنتم تعيشون في بلادٍ تسمُّونها الهامش، وقد أنعم الله عليكم بالخيرات، وجعلها لكم في المطر، والزَّرع، والضَّرع، والماء في باطن الأرض، وأغلى المعادن، وجعل عندكم أكبر وأجمل المدن السودانية.
انزعوا الكراهية من قلوبكم، ستجدون أن ما نتميَّز به عنكم، هو انتماؤنا لأرضنا، التي لا يوجد فيها شيءٌ من متاع الحياة الفانية سوى العلم، والحب، والنيل الخالد، وحنين الطنابرة!
خالد الباشا